ملخص المقال
انعدام الثقة في الماضي داء عضال يجعل الأمة تترنح كمن أصابه فقدان الذاكرة، فكيف نعيد الثقة في الماضي واليقين في المستقبل؟
لقد ابتليت أمتنا في الثلاثة قرون الأخيرة بما لم يُبتلَ غيرها بمثله، إذ تهاوت من عليائها المكين إلى أسفل سافلين، واستعمرتها جيوش برابرة الغرب والشرق، وانتهكت حرماتها واستباحت عواصمها، ولم تكد تنقشع غمامة الاستعمار العسكري إلا وقد خلّف ما هو أسوأ منه، ألا وهو مزيج الاستبداد الداخلي أو الاستعمار الداخلي -إن جاز التعبير- مع الاستعمار الخارجي الاقتصادي والثقافي والسياسي، وهذان أشد وطأً من الاستعمار القديم، وأشد قتلاً لأمتنا.
لكن أكثر ما يرعبني فعلاً، وينذر بتبديد آمال أمتنا في النهوض من كبوتها، هو ضعف ثقة الأمة في نفسها ومقدارتها، وبالأخص في أجيال الشباب التي تعول الأمة عليها في إقالتها من عثرتها التي طالت، وهذا الضعف تجسد في اغتمام شديد من الحاضر المؤلم ويأس من إصلاحه، وانعدام الثقة في الماضي؛ إذ أضحى لسان حال الكثيرين أننا أمة كُتب عليها الانحطاط والإذلال على مر الزمان! ونجم عن كل ذلك فقدان الرجاء في المستقبل، والاعتقاد أننا سنظل نتذيَّل ركب الأمم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وانعدام الثقة في الماضي داء عضال، يجعل الأمة تترنح كمن أصابه فقدان الذاكرة، فهو يتخبط إذ لا يدري من يكون؟ ولا ماذا؟ أو لماذا؟ أو كيف؟ أو.. أو..، ولا يمكن لأمة بمثل هذه الحال أن تسود يومًا، بله أن تنهض بعد انحدار.
إن أمم البشرية جمعاء تعتز بتاريخها، بل أحيانًا تحاول أن تصطاد من تاريخها ما يشرفها -وإن لم يكن مشرفًا- وما يمنحها الثقة في حاضرها، وما يمكن أن تدرسه لأبنائها على أنه أمجاد الأجداد؛ وذلك لكي يشبُّوا على حب أمتهم والاعتزاز بها، واعتبار النهوض بها والرقي بحاضرها ومستقبلها واجبًا مقدسًا، ولسان حالهم.. كيف يترك لنا الأجداد هذا الماضي العظيم، ولا نحاول أن نكرر مثله أو أعظم، وأن نرفع بنيانهم ونشق به عنان السماء؟!
حتى أحط المراحل في تاريخ الإنسانية وجدت لها من يدافعون عنها، ويعتبرونها من أمجاد الأجداد التي لا بد أن تحاط بهالات القداسة والتمجيد حتى يعتز بها أبناء الحاضر!
خذ مثلاً الحروب الصليبية في القرنين الـ12 والـ13 الميلاديين، والتي تزيت بزي الصليب والدفاع عنه، ولم يكن في باطن من قاموا بها سوى أحلام الغنى والسيادة في ظل الشرق وخيراته، والعب من كنوزه عبًّا، والهرب من واقع أوربا المظلمة في ذلك الوقت، والتي كانت مسرحًا للحروب والاستبداد والدمار والطواعين والتخلف والجهل والأمية.
هذه الشراذم الوضيعة من الصليبيين الذين ينبغي ألا يكون لهم مكان في التاريخ سوى مزبلته! يُحتفى بهم في الغرب، ويدرسون في التاريخ على أنهم أبطال، يتحلون بأخلاق الفرسان، ولم يكن لهم همٌّ سوى حماية مدينة الرب (القدس) من ظلم واستبداد وتجبر (البرابرة المسلمين)!! لا أدري أية أخلاق فرسان أو ذرة من إيمان تبيح لمن يعظم مدينة الرب أن يذبح في أرجائها 70 ألفًا على الأقل من الآمنين، ويجعل الدماء فيها للركب؟!! ولكن تزوير التاريخ هو عمل من لا عمل له. وهكذا ما زال يُحتفى بفرسان المعبد والإسبتارية وسواهم من فرسان تلك الحملات الغاشمة كأبطال في الذهنية الأوربية، وهم لم يكن لهم عمل في مشرقنا العربي الإسلامي سوى القتل والذبح ونهب الثروات واقتسام الإقطاعيات والتنازع على الإمارات!!
وحتى الاستعمار الحديث -بوجهه القبيح- وقذاراته التي لا تعد ولا تحصى، ومذابحه التي غبرت وجه التاريخ الإنساني، واستعباده للبشر والحجر، وجد من يذب عنه، ويصفه بأنه كان درب تنوير الشعوب المتخلفة، وأنه نهض بالإنسانية من غفوتها، وهداها بنور العلم والمعرفة إلى التقدم والرقي.. ولكنْ أهداية البشرية وتنويرها تتطلب إبادة شعوب بأكملها (كالهنود الحمر مثلاً)، واستعباد أمم كاملة (كأمتنا العربية والإسلامية) واستنزاف مواردها وتقسيم أراضيها، وإراقة -على سبيل المثال لا الحصر- دماء 60 مليونًا من البشر في حرب استعمارية واحدة (هي الحرب العالمية الثانية)؟!!
انظر مثلاً إلى فرنسا، بلد النور والحرية والجمال، تدرس في تاريخها لأبنائها أن أجدادهم الاستعماريين هم أبطال عظماء نهضوا بالشعوب المسكينة المتخلفة.. فعلاً كما قلنا آنفًا.. تزوير التاريخ أضحى عمل من لا عمل له!
إن أي ناظر محايد إلى التاريخ الاستعماري، ليدرك بما لا يدع مجالاً للشك، أن الاستعمار الفرنسي من أقذر أنماط الاستعمار التي عرفها التاريخ، ومذابحه في الجزائر -بلد ما يفوق المليون شهيد- شاهدة على ذلك؛ فعلى سبيل المثال تصدى الجيش الفرنسي للمظاهرات التي تطالب بالحرية في مدينة الجزائر العاصمة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فسقط أكثر من 15 ألف شهيد جزائري في يوم واحد!!
أما بالنسبة أمتنا العربية والإسلامية، فتمتلك تاريخًا ثريًّا، خصبًا بالمواقف والدروس والعبر، وهو وإن كان تاريخًا إنسانيًّا يسري عليه ما يسري على كل نتاج للبشر؛ إذ فيه الرقى والهبوط، والشموخ والرضوخ، وسقطات ونهضات، واستقامات واعوجاجات، وارتفاعات وانحطاطات، وفترات مضيئة يكاد نورها يذهب بالأبصار، وفترات أخرى حالكة السواد كقطع الليل المظلم كالتي نحياها الآن، إلا أنه -إجمالاً- أشرف وأعظم وأروع تاريخ عرفته الإنسانية.
نعم.. أنا أعني وأعي ما أقول! ويكفى أنه تاريخ ارتبط اسمه ورسمه بأعظم هدية من رب العالمين للناس -لو يعلمون- وهو الإسلام. وفي تاريخنا آلاف المواقف التي يُفخر بها على مر الزمان، والتي لا تحتاج منا إلى تزويق أو تحسين أو تبرير، بل على العكس، قد نحتاج إلى أن نلوثها قليلاً لكي يستطيع غيرنا أن يصدقوا أنها وقعت بالفعل وأنَّا لا نختلقها، وأنَّ من قاموا بها بشرٌ مثلنا وليسوا ملائكة!!
وهذا ما سأحاول إيضاحه بإذن الله وتوفيقه في ما سيأتي من مقالات.
ولكن هناك نقطة مهمة جدًّا، وهي توضيح الهدف من الكتابة في هذا الموضوع، فليس الهدف إرضاء الجوانب الجعجاعة في شخصيتنا، والتي تهوى الاعتداد بأمجاد الآباء والأجداد دون أن تتحرك قيد أنملة في سبيل تكرارها، وليس الهدف أيضًا أن أقول إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأنه ما ترك الأولون للآخرين فضلاً، فكل ما سبق نوع من السلبية لا يرضي الله، ولا ينجينا من مسئولية الحاضر والمستقبل.
وإنما هدفي هو زيادة ثقتنا في ماضينا، وتيقننا من مستقبل مشرق بإذن الله، والأهم أن نبعث في نفوسنا روح العمل والاجتهاد لنحقق في أنفسنا ومجتمعاتنا من الأعمال العظيمة صغيرها وكبيرها، ما يكون صلة الماضي بالمستقبل، حتى لا نكون كالشاعر الذي يقول:
أمسيت في الماضي أعيش كأنما *** قطع الزمان طريق أمسى عن غدي
وإنما سنكون نحن -بإذن الله- قناة الربط بين بحر ماضينا ومحيط مستقبلنا بإذن الله، فلا يدوم الانقطاع بينهما أكثر.
وختامًا، فأعظم مدرسة هي مدرسة الحياة والتاريخ، فهي ليست كلامًا نظريًّا في الكتب نصدق بعضه ونكذب بعضًا ونتحيَّر في بعض، وإنما دروسًا حية شهدها مسرح الدراما الإنسانية، وأبطالها ليسوا من بنات أفكار وخيالات الكتاب، وإنما شخوص حقيقية ذات أجساد وأرواح ورغبات وضمائر ومُثُل عليا وشهوات و... و...و...، والدماء التي سالت فيها كانت نزيفًا حقيقيًّا من شرايين الإنسانية وأوردتها، وليست من أكياس تحتوي الماء الملون! وليس فيها بروفات وإعادة تصوير لمشاهد، وإنما ما يتم تصويره لا يرجع إلى يوم القيامة! يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إذن فهي دروس عملية تطبيقية يحسن بنا أن نتعلم منها كما تعلم غيرنا، والله من وراء القصد.
التعليقات
إرسال تعليقك